إن ما يحتاجه نضال الحراطين اليوم هو الاستئناف وإن أي انطلاقة من جديد تحتاج إلى عودة للخلف، مراجعة التجربة واكتشاف مكامن الخلل والمثالب التي تستوجب التصحيح ثم النظر إلى ما هو قابل للتكريس والبناء عليه وتعزيزه بما يضمن مزيد من الفاعلية. هذا هو الدور الأول للتاريخ أي الاستئناس والتبصر لماهو قادم «من لا يعرف تاريخ الثلاثة آلاف سنة الماضية يظل يعيش في العتمة « هكذا قال كبير الألمان غوته.
إن العودة وتتبع بواكير النضال المحسوب على مكونة الحراطين يظهر أن الحركات الحقوقية والسياسية لم تنجح في خلق مدارس ورؤى سياسية أو حقوقية وهذا هوما يجعل نضالها لم يستطع التقدم أو الذهاب بعيدا. ذلك أن أي نضال لابد له من نظرية أو منظومة فكرية سواء كانت نظرية ثورية أو إصلاحية. إن هذه النظرية، لمن يتبنونها، هي آلية التحليل التي من خلالها تفهم المشاكل المطروحة وكيفية التصدي لها. فمالم تنجح الحركات السياسية والحقوقية المحسوبة على الحراطين في تبني مثل هذه النظريات، لن يتقدم نضالهم قيد أنملة وسيظلون يقومون بالخطوة والخطوة المعاكسة لها وبالتالي تظل حركة النضال غير مضطردة وغير منسجمة وغير قابلة لتكون تراكمية.
يظهر هذا الخلل جليا حين ننظر إلى الجيل الثاني من مناضلي الحركات السياسية والاجتماعية المحسوبة على الحراطين، حيث يصعب أن نجد كوادر مؤطرين ومسلحين بمعدات نظرية تجعلهم يتصدون للأطروحات الإيديولوجية للمنظومة التي هي سبب اضطهادهم بل نجدهم منسجمين إلى حد التبني لهذه الأطروحات فبعيدا عن شعارات “الحراطين مهمشين” “الحراطين مظلومين” لا نجد ما نقبض عليه، فليس هنالك خطاب متماسك ووعي بتمثلات وأبعاد هذا الظلم وهذا التهميش.
إن قضية الحراطين هي قضية عابرة لكل البنى السياسية والثقافية والاجتماعية ومعضل الظلم والاضطهاد فيها يقع داخل أطر مختلفة ومتداخلة في الآن نفسه، لذلك فحلها لايمكن أن يكون سياسيا فقط. إن الفشل في خلق مدارس فكرية له الأثر البالغ في عدم حسم الكثير من القضايا المطروحة للحراطين. فمالم يجد الحراطين نظرية فكرية قادرة على تفكيك هذا التهميش وأسبابه وجذوره، لن يتقدم هذا النضال. طبعا هنالك شرعية القضية، التي تصل أحيانا إلى مستوى القداسة عند البعض لكن ذلك ليس كافيا فلكل حقيقة قوتها ولو كانت قوة الحقيقة وحدها، كافية لما ظلم أحد. إن شرعية القضية هو مايجعل هذا النضال يظل قادرا في كل مرة على خلق زعماء وقادة وعلى جعل البعض يرتقي طبقيا ويصبح من الطبقة المسيطرة لكن سيظل هذا كله على حساب قضية الحراطين بشكلها الأعم، فستظل في مكانها، تبحث لنفسها عن حل يبدو عصيا في كل مرة.
أن حل معضلة الحراطين لا يمكن أن يكون من داخل نفس البنى التي يتم من خلالها اضطهادهم وتهميشهم لذلك فإن أي مناضل لم يخرج من هذه البنى ويقف بشكل نقدي منها لا يمكن أن يكون جزءا من الحل،لأن نفس البنية ستظل تعيد انتاج نفسها من خلاله، فإن كانت بنية ثقافة ستظل مقولاتها الثقافية نشطة وبفاعلية وإن كانت بنية اجتماعية ستظل تلك التراتبية والممارسات الاجتماعية فاعلة في المجتمع. لذلك فطرح الحراطين حتى الآن ليس جذريا ولا واعيا حتى،فهم يريدون العدالة للحراطين لكن داخل نفس البنى والأطر التي تضطهدهم. على المناضلين أن يتعلموا كيف يخرجون من هذه الأطر وذهنيات التفكير التي انتجتها ليتسنى لهم تجاوزها،إن أي إبن بار لبنية معينة لا يمكنه الخروج عليها. فمادام كل ما ينقمه الحراطين من المنظومة القائمة هو أنها لم تجعلهم أبناء “خيام كبارات” فهذا يعني أن وعيهم مازال زائفا وليسوا مستعدين بعد للدخول في منطق التفكير المدني والسياسي، المنطق الذي يتجاوز بنى الاضطهاد ويحل العدالة محل الغبن الاجتماعي والتفاوت الطبقي.
إن الحديث عن وضع الحراطين في خانة واحدة هو قفز على الواقع فالحراطين اليوم فيهم من أصبح جزءا من هذه البرجوازية الممسكة بالبلد وبالتالي وضعهم مع الحراطين، الذين مازالوا يعانون ويلات الغبن والتهميش في مساكن الصفيح والتجمعات القروية(آدوابة)، بناءا فقط على اللون والتاريخ هو وقوع في فخ المتخيل والعاطفي الذي لاتسنده المعطيات المادية الملموسة كما أن أي طرح يروم جعل الحراطين قبيلة بكل ما تمثله هذه القبيلة من حمولات رجعية لا تنتمي لأفق الدولة المدنية هو طرح بارد ولايمثل تجاوزا بل إعادة انتاج لنمط معين من العيش لم يعد ممكنا ولايجب أن يكون أفقا لأي حراك سياسي أو مدني. إن النضال المطلوب اليوم هو ذلك الذي يتكئ على الطرح النقدي الذي لايمكنه بأي حال من الأحوال أن ينسجم مع أي طرح تقليدي، فالمناضل الحرطاني يجب أن لا تخامره رغبة في أن يكون “إبنا لخيمة كبيرة” ولا أن يكون “شيخ” بكل ماتمثله صورة الشيخ في الثقافة الاجتماعية، لأن رغبة مثل هذه عوضا عن كونها غير قابلة للتحقق فإنها تنتمي لماقبل الدولة المدنية التي يجب أن تكون هي طموح الحراطين اليوم وهدفهم لأنه من دونها لا يمكن القضاء على اضطهادهم.
هنالك جزء نفسي أيضا في معضلة الحراطين يجب التنبه له وهو متعلق بدوام تكرار تهميش الحراطين والبحث عن الحل عند الآخر دون أن يكون هنالك دور واشراك للحراطين، وهو ما يخلق عزلة اجتماعية ويجعل الحرطاني يحس دائما أنه هش وأنه غير قادر على مواجهة المجتمع من دون حماية نفسية، يجب الخروج من هذا النمط من التعاطي مع المعضلة. فالحراطين لهم القدرة الكاملة على تحمل التبعات النفسية لوضعهم الاقتصادي والاجتماعي دون الحاجة إلى قفازات نفسية. ثم يجب أن نطرح السؤال الآتي: هل حل معضلة الحراطين غاية في حد ذاتها أم وسيلة للوصول إلى ماهو أبعد من ذلك؟
إن تهميش الحراطين وقع داخل أطر تقليدية وهي نفس الأطر التي تم جلبها إلى بنية الدولة دون أن يتغير شيء فالدولة عندنا لم تنشأ على أنقاض بنى مضمحلة بل داخل هذه البنى : بنية القبيلة والمشيخة والعلاقات الاجتماعية التي تربطها لذلك فالدولة لم تنشأ كنقيض لما قبلها من كيانات سياسية.
الخلاصة
إن تفكير الحراطين اليوم يجب أن يكون قادرا على الخروج من دور الضحية إلى الفاعلية المطلبية، التي تؤهل الحراطين للدخول في عملية التفكير في كيفية تشييد دولة مدنية مبنية على أسس عقلانية قادرة على حسم جميع القضايا الاجتماعية العالقة والتي ستعيق أي مشروع للتنمية. يجب أن نعي أن الدولة الموريتانية منذ تأسيسها أسست على أساس غير سليم لذلك فالمشكل بنيوي ومالم يتم حل مشكل التأسيس سيظل الحال على حاله وسيظل المهمش مهمشا.
إن الحراطين هم أكبر مكون من مصلحته التغيير ولذلك يقع عليهم هذا الرهان بشكل كبير فهم تحت طائلة التوزيع الغير عادل للثروة وتقصيهم التراتبية الاجتماعية والسياسات الثقافة للدولة تهدف إلى طمسهم كثقافة لها مايميزها، لذلك من أجل التغيير يجب الوعي بكل هذا الوزن وقيمته في عملية التغيير.