ولد بعسر ونشأ مأزوما ونما مشوها واقتصرت علاجاته على المسكنات التي لا تلبث أن تظهر أمارات عدم نجاعتها، لتبدأ من جديد رحلة البحث عن مسكنات بديلة...
ذلكم هو النظام التربوي الموريتاني الذي ظل وما زال يترنح بين إصلاح وآخر، بين نظام تعليم فرنسي موجه لدول غرب إفريقيا مع بداية الاستقلال (1960) إلى نظام فرنسي مع جرعة عربية مخففة (قرار 1966)، أو نظام عربي خالص يتعايش مع آخر فرنسي وصف "بالمزدوج" (إصلاح 1973)، أو نظام عربي لأبناء الأغلبية العربية وآخر فرنسي لأطفال الأقليات القومية (إصلاح 1979)، ثم نظام تعليمي بمحتوى تربوي موحد لجميع أبناء البلد، تقدم فيه المواد التعليمية العلمية باللغة الفرنسية بينما تدرس فيه المواد التراثية باللغة العربية (إصلاح 1999).
لقد فشلت كل الإصلاحات السابقة في بناء منظومة تربوية فعالة؛ وذلك بسبب إقرارها في ظروف استعجالية تحت ضغط الأزمات فضلا عن طغيان الأبعاد السياسية على الجوانب الفنية والمهنية، وسرعة التراجع عن مواصلة العمل بالإجراءات المصاحبة لتطبيقها.
لقد اخذت آخر نسخة من الإصلاحات التربوية إسم "المدرسة الجمهورية" التي تتراآى لكل ذي بصيرة هشاشة أرضيتها ووهن أعمدتها ...
ورغم نبل مبادئها ووجاهة أهدافها، فقد أبانت الخطوات الأولى لتأسيس المدرسة الجمهورية عن مستوى من الارتباك والضبابية في الرؤية لدى القائمين على القطاع.
فالمدرسة الجمهورية تهدف، من بين أمور أخرى، إلى تدريس منهاج تربوي وطني موحد، للأطفال الموريتانيين في ظروف متشابهة...بلغات وطنية وبمضمون معرفي يرسخ هويتنا ويعزز المشترك بين مكونات شعبنا ويؤهل شبابنا علميا للمشاركة في صناعة مستقبل الأمة ...
فأين نحن من هذه الأهداف؟ وهل تتسق القرارات والتعليمات الصادرة عن الوزارة مع المبادئ المعلنة في القانون التوجيهي ل"إصلاح التعليم"؟
إن استعراض القرارات التالية يظهر مدى الارتباك والتناقض الذي رافق بدايات تنفيذ الإصلاح الحالي ويبعث على القلق بخصوص مآلاته...
لقد قررت الوزارة حصر تعليم الأطفال في المستوى الأساسي على المدارس العمومية بصفة تدريجية.
وعند الافتتاح المدرسي (2023/2024)، اكتشفت الوزارة وجود ما يزيد على 950 مدرسة خصوصية على عموم التراب الوطني حائزة على رخص من وزارة التهذيب لتدريس المقررات التربوية الوطنية، بالإضافة إلى 27 مدرسة تدرس أو تدعي تدريس مقررات أجنبية، لكن بدون تراخيص لذلك.
ولمعالجة وضعية هذه المدارس ومريديها، اجتهدت الوزارة لكنها أخطأت، عندما كافأت 27 مدرسة خارجة على القانون بالسماح لها "مؤقتا" بمواصلة تدريس البرنامج الأجنبي للأطفال الموريتانيين وحظرت على 950 مدرسة مرخصة استقبال الأطفال في السنوات الأولى، فيما يشبه العقوبة!
وفي نهاية السنة الدراسية 2023/2024، أحالت الوزارة إلى السفارة الفرنسية في نواكشوط التماس (9) مدارس من 27 منح صفة الأهلية "l,homologation " لتدريس المقرر التربوي الفرنسي، دون مراعاة لأية معايير في انتقاء هذا العدد دون غيره من المدارس الشبيهة (27)!
لترد السفارة الفرنسية بأن هذه الطلبات قيد الدراسة.
وعند بداية السنة الدراسية الحالية 2024/2025، قررت وزيرة التهذيب وإصلاح النظام التعليمي ما رأته تطبيقا للقانون التوجيهي، من خلال سحب السنوات الثلاث الأولى من التعليم الأساسي من جميع المدارس الخاصة دون استثناء.
وبعد غياب الوزيرة، في إجازة خاصة، قرر الوزير وكالة الترخيص لسبع (7) مدارس بمواصلة تقديم الدروس للأطفال في السنوات المذكورة آنفا.
وبعد أسبوع من ذلك تم منح مدرستين (2) إضافيتين نفس الامتياز.
و الواقع أن خدمة التعليم الأساسي يفترض أن تكون قريبة من الأهالي وهو شرط غائب في الوقت الحالي ويصعب تحقيقه في المستقبل نظرا لعدم وجود فضاءات مناسبة لبناء المدارس في العديد من الأحياء السكنية والشعبية.
لقد أسفرت هذه الوضعية عن حالة غير مسبوقة من الارتباك، تمثلت في :
- الشك في صدقية الخيار التربوي الهادف إلى وحدة المضمون المقرر على الأطفال الموريتانيين في التعليم الأساسي.
- الشك في جدية مبررات الإصلاح المعلنة، المتعلقة بالحد من الغبن بين مكونات شعبنا، حيث منح أبناء العائلات الميسورة في تفرغ زينة فرصة دراسة مقررات أجنبية في ظروف "معقولة" مقارنة مع ما يقدم للآخرين من تعليم في المدرسة الجمهورية. وهو إجراء يضاهي قرار وزارة التعليم العالي القاضي بحرمان المتميزين من الناجحين في الباكالوريا من منح خارجية، ليستأثر بالتسجيل في المقاعد الممنوحة لبلادنا من بعض الدول، أبناء العائلات القادرة على التكفل بمصاريف معيشتهم ومسكنهم، وإن كانت مستوياتهم الدراسية ضعيفة ومعدلات نجاحهم متواضعة.
- شعور عارم من الإحباط والحيرة على مستوى الوكلاء بسبب عدم وجود مقاعد دراسية في الجوار واكتظاظ الأقسام التربوية، إن وجدت فيها مقاعد.
- شعور ملاك المدارس الخاصة والعاملين فيها بالحيف جراء المعاملة التمييزية في نظام يفترض أن يكرس العدل والمساواة ويؤمن للمستثمرين في القطاع مصالحهم.
- استغراب ذوي النهى من استظهار الوزارة بردود السفارة الفرنسية على التماس الأهلية المحال إليها من قبل الوزارة لصالح بعض المدارس "المتفرنسة" دون غيرها ودون مراعاة لأي معيار !
وكأن اعتماد وزارة التعليم الفرنسية للمدارس يكفي لنمنحها التراخيص والامتيازات، ونتخلى عن سيادتنا على مقرراتنا التربوية على أرضنا ولصالح أبنائنا!
ومن باب التذكير، فالتراخيص الممنوحة في ثمانينات القرن الماضي، لبعض المدارس، على قلتها، تحصر عمل هذه المدارس في تعليم أبناء الأجانب فقط، مع إمكانية ترخيص وزير التهذيب، في حالات استثنائية، لبعض الوكلاء الموريتانيين بتسجيل أطفالهم في هذا الصنف من المدارس، وهو إجراء تم التبويب له لصالح أبناء المغتربين العائدين إلى الوطن.
فكيف تسعى وزارتنا اليوم، والحالة هذه، إلى تحويل الاستثناء إلى قاعدة في غياب أي مبرر!
الحقيقة أن المساواة في الفرص بين أبناء مكوناتنا الوطنية تمثل هدفا نبيلا، كان بالإمكان تحقيقه عن طريق تحسين نوعية الخدمة المقدمة في التعليم العمومي حتى ينافس التعليم الخاص. وبذلك تتحقق المساواة وتختفي الفوارق، لكن في تعليم ذي جودة. أما أن نسعى إلى القضاء على المكونات "المقبولة" نسبيا في نظامنا التربوي مثل المدارس الخاصة و مدارس الامتياز، لننحدر بمستويات تعليمنا إلى الهاوية بحجة المساواة، فذلك لعمري مبرر غريب، يذكرني بقصة تدخل طبيب العيون التي يتحدث عنها بطرافة، الكاتب المبدع، حبيب ولد محفوظ رحمه الله. وموجزها أن مريضا يشكو ألما في إحدى عينيه، قابل طبيب عيون تقليدي لمعالجة علته، فعاجله الطبيب بكي العين السليمة بالنار وبأسلوب فج. وفي المقابلة الموالية سأل الطبيب مريضه عن حال العين فأجابه بأن العين التي كانت سببا في آلامه الأولى لم يبدأ علاجها بعد!
كما تذكرني مقاربة الوزارة في تحقيق المساواة بقصة سائق سيارة يقال إنه لاحظ ميلها الشديد بسبب فراغ إحدى عجلاتها من الهواء، فأوقفها على قارعة الطريق لمعالجة الأمر. لكنه بدلا من تعبئة العجلة الفارغة بالهواء قام بتفريغ بقية العجلات!
وعلاوة على ما سبق فإن الإصلاح الجديد لم ترافقه جهود مشهودة لتحسين نوعية الخدمة التعليمية؛ فالمخابر العلمية معدومة والكتاب المدرسي غير متوفر ووسائل الإيضاح من خرائط ومجسمات وغيرها نادرة، فضلا عن غياب الحوافز لدى المدرسين ونقص ملحوظ في خبرة الكثير منهم بسبب الاكتتابات المباشرة المتتالية للمعلمين ومقدمي الخدمة والزج بهم في الميدان، دون تكوين مهني.
وخلاصة الموضوع أن نظامنا التربوي ينحدر شيئا فشيئا إلى مهاوي الإفلاس، وأننا بحاجة إلى قرار شجاع من الجهات العليا، يقضي بالتراجع عن مواصلة السير في مسار خاطئ، سيؤدي حتما، إن لم يتم تدارك الأمر، إلى التضحية بجيل من شبابنا والمجازفة بمستقبل أمتنا.
محمد ولد المحمود